يقول الإمام بدر الدين بن جماعة في كتابه (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام) في معرض الحديث عن حقوق الرعية: "ومنها: حفظ الدين على أصوله المقررة وقواعده المحررة، ورد البدع، ونشر العلوم الشرعية، ومخالطة العلماء الأعلام ومشاورتهم في موارد الأحكام، ومصادر النقض والإبرام، وإقامة شعائر الإسلام والحدود الشرعية على الشروط المرعية". [1]
هذه بعض واجبات السلطان كما قررها العلماء الأعلام، ولكن بعض السلاطين لم يتقيدوا بما حده الشرع، ومالوا إلى أهوائهم وما تمليه شهواتهم، بل وما يمليه أعداء الدين. يقول الإمام السخاوي: "ومن أعظم خطأ السلاطين والأمراء تسمية أفعالهم الخارجة عن الشرع سياسة فإن الشرع هو السياسة لا عمل السلطان بهواه ورأيه، ومضمون قولهم يقتضي أن الشرع لم يرد بما يكفي في السياسة، فاحتجنا إلى تتمة، وهذا تعاطي على الشريعة يشبه المراغمة... ". [2]
وبسبب أمثال هؤلاء السلاطين قام العلماء الذين أخذ عليهم الميثاق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان موقف الإسلام من الأحداث الكبار، ومن أبرزهم في القرن السابع الهجري الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام السُّلمي الدمشقي الملقب بـ (سلطان العلماء) (578 - 660) وهو الذي يقول: "المخاطرة بالنفوس مشروعة في إعزاز الدين، ولذلك يجوز للبطل من المسلمين أن ينغمس في صفوف المشركين، وكذلك المخاطرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة قواعد الدين بالحجج والبراهين مشروعة، ومن قال بأن التغرير بالنفوس لا يجوز فقد بعد عن الحق، ونأى عن الصواب". [3]
وعلى منهجه هذا سار - رحمه الله - مع حكام زمانه من أبناء أو أحفاد العادل بن أيوب [4] فقد استعان ملك دمشق إسماعيل بن العادل بالصليبيين، ودخل الفرنج إلى دمشق لشراء السلاح، فشقَّ ذلك على الشيخ مشقة عظيمة، وأفتى بحرمة بيع السلاح لهم، وأنكر على السلطان فعله، وترك الدعاء له في الخطبة، وساعده في ذلك الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي، فغضب السلطان منهما، وأمر باعتقال الشيخ ابن عبد السلام، وأخذه معه معتقلاً عندما ذهب لمقابلة الفرنجة، وكأنه يثبت للفرنجة إخلاصه لهم، وأنه يعتقل كل من يعارض هذا الصلح الذليل وقال لهم: "هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم، فقالت له ملوك الفرنج: لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها... ". [5]
ثم أفرج عن الشيخ، فخرج إلى مصر، وتلقاه صاحبها الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل بن العادل بالترحاب، وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص والقضاء بها. [6]
ومن هؤلاء الأعلام الآمرون بالمعروف شيخ الإسلام المجدد المجتهد أحمد ابن عبد الحليم بن تيمية (661 728))الذي لم يكتف بنشر العلم وكتابة المؤلفات الكبيرة النافعة؛ بل كان مجاهداً أماراً بالمعروف، وكان له أتباع يقومون معه لإحقاق الحق.
وقد عاش في فترة عصيبة من حياة المسلمين، وذلك حين داهم التتار العالم الإسلامي، يقتلون ويخربون، وكان الناس إذا سمعوا بهم فروا من أوطانهم هائمين على وجوههم، وهكذا أراد أهل دمشق أن يفعلوا، فكان ابن تيمية يثبتهم، ويقوي عزائمهم، وذهب إلى السلطان في مصر يطلب النجدة لحماية بلاد الشام، واشترك في المعارك بنفسه، وبعد صد الخطر الخارجي التفت إلى الخطر الداخلي خطر الباطنية والحاقدين الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين، ففي سنة 693 ه سمع الشيخ أن نصرانياً من أهل السويداء اسمه عساف سب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم استجار بابن أحمد بن حجي أمير آل علي، فقام ابن تيمية منكراً لهذا الأمر، "وذهب إلى نائب السلطنة ومعه زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث، وكلما الأمير عز الدين أيبك الحموي، فأجابهما إلى ذلك، وأرسل ليحضره، فخرجا من عنده ومعهم خلق كثير من الناس، فرأى الناس عسافاً حين قدم ومعه رجل من العرب، فسبوه وشتموه، فقال ذلك البدوي: هو خير منكم - يعني النصراني - فرجمهما الناس بالحجارة وأصابت عسافاً ووقعت خبطة قوية... " [7] وقد صنف ابن تيمية في هذه الواقعة كتابه: الصارم المسلول على شاتم الرسول. [8]
ومن وقفات الشيخ المشهورة، مقابلته مع وفد من العلماء لملك التتار (قازان)، يقول شاهد عيان لهذه الحادثة: "كنت حاضراً مع الشيخ، فجعل يحدث السلطان بقول الله ورسوله، ويقرب منه، والسلطان مع ذلك مقبل عليه، شاخص إليه لا يعرض عنه، وقال الشيخ للترجمان: قل لقازان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاضي وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا، فغزوتنا وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت". [9]
وعندما ذهب خطر التتار واطمأنت قلوب أهل دمشق لم يطمئن قلب ابن تيمية، فقد كان مشغولاً بأعداء الداخل الذين ظاهروا التتار على المسلمين، الذين يسكنون الجبال من الباطنية، فجرَّد الشيخ حملة مع نائب السلطان الأفرم إلى بلاد الجرد وكسروان، ومن شايعهم من التيامنة، وانتصر عليهم، واستتاب خلقاً منهم وألزمهم بشرائع الإسلام.
وفي عام (705 هـ اشتكت فرقة الرفاعية الصوفية من إنكار ابن تيمية عليهم، وكلامه فيهم، وطلبوا من نائب السلطان أن يكفَّ ابن تيمية عنهم، فقال الشيخ: هذا ما يمكن، لابد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة قولاً وفعلاً.
وقد حُسد الشيخ بسبب المنزلة الرفيعة التي كانت له عند الناس وعند الأمراء، فسعوا به إلى السجن لأمور خلافية في الفقه، كان قد قررها ورأى الصواب فيها. لم يهتم الشيخ بهذا، فالدعوة يمكن أن تستمر في السجن أيضاً، يقول الشيخ البرزالي واصفاً حال الشيخ: "ولما دخل الحبس وجد المحابيس مشغولين بأنواع من اللعب يلتهون بها عما هم فيه كالشطرنج والنرد، مع تضييع الصلوات، فأنكر الشيخ ذلك عليهم، وأمرهم بملازمة الصلاة والتوجه إلى الله بالأعمال الصالحة والتسبيح والاستغفار والدعاء، وعلمهم من السنة ما يحتاجون إليه، ورغبّهم في أعمال الخير، حتى صار الحبس بالاشتغال بالعلم والدين خيراً في كثير من الزوايا والربط والمدارس، وصار خلق من المحابيس إذا أُطلقوا يختارون الإقامة عنده... ". [10]
ومنهم: الشيخ عبد الله بن عثمان اليونيني الملقب بـ (أسد الشام) "وكان أماراً بالمعروف، لا يهاب الملوك، حاضر القلب، دائم الذكر، قيل إن العادل أتى والشيخ يتوضأ، فجعل تحت سجادته دنانير فردها وقال: يا أبو بكر: كيف أدعو لك والخمور دائرة في دمشق؟ فأبطل ذلك. وقيل، جلس بين يديه المعظم وطلب الدعاء منه، فقال: يا عيسى لا تكن نحس [11] مثل أبيك، أظهر الزَّغل [12] وأفسد على الناس المعاملة [13]
ومنهم: أبو عبد الله محمد بن أبي المعالي بن قايد الأواني [14] ذكر الذهبي في سيره أنه قدم (أوانا) واعظ باطني فنال من الصحابة، فغضب الشيخ ابن قايد، وطلب أن يحمل في محفته، وقد كان مقعداً، فحمل وجيء به إلى المسجد وصاح بالباطني: يا كلب انزل، ورجمته العامة فهرب إلى الشام وحدث كبير الاسماعيلية الباطنية سنان بن سلمان بما حدث له، فندب سنان اثنين من رجاله لقتل بن قايد، فأتياه وتعبدا معه شهراً ثم قتلاه، وقتلا خادمه، وهربا في البساتين، فنكرهما فلاح فقتلهما. [15]
وبمثل هؤلاء العلماء المتألهين يحفظ هذا الدين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون...
----------------------------------------
[1]- تحرير الأحكام/ 65
[2] - الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ/48
[3]- السبكي: طبقات الشافعية الكبرى 8/228.
[4] - تملك بعد أخيه صلاح الدين الأيوبي.
[5] - انظر إلى هذا السلطان الذي يحاكي حكام زماننا الذين يتقربون إلى أحفاد الفرنجة بمحاربة الدعاة والعلماء ويودعونهم السجون لا لسبب ظاهر إلا التزلف لأعداء الله حتى يرضوا عنهم.
[6] - طبقات الشافعية 8/210.
[7] - ابن كثير: البداية والنهاية 13/335.
[8] - الكواكب الدرية/181.
[9] - قارن بما وقع هذه الأيام في باكستان حين ثبت على نصرانيين أنهما سبا الإسلام، وضغطت بريطانيا على الحكومة الباكستانية حتى لا يصدر حكم بحقهما، ولم يستطع العلماء هناك إظهار موقف قوي تجاه هذه الحادثة.
[10] - أبو الحسن الندوي: حياة شيخ الإسلام ابن تيمية/50.
[11]- الصواب: نحساً وتركت كما هي بخط الذهبي.
[12] - العملة المغشوشة.
[13] - سير أعلام النبلاء 22/101.
[14] - من قرية أوانا شمالي بغداد.
[15] - سير أعلام النبلاء 21/195.
لقراءة المقال من المصدر
0 التعليقات:
إرسال تعليق