تاريخ الخطبة : 8/رمضان/1433 هـ - 27/7/1/2012 م
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد:
أيها الإخوة المؤمنون الصائمون: القرآن العظيم هو كلمة الله العظيم الحكيم التي شاء لها -سبحانه- أن تبارك هذه الأمة، وأن تكون عطيته لكل مؤمن به على امتداد الزمان، واختلاف المكان، وتنوع الأجيال؛ تكرمةً منه -سبحانه- لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ولكن شاءت حكمة الله -سبحانه- أن يجعل لهذا القرآن العظيم خصوصية في زمن من الأزمان اختاره بحكمته من بين سائر الزمان، كما اختار أمكنة من بين سائر الأمكنة وبارك فيها، وكما اختار أناسا من بين سائر الناس فاصطفاهم برسالته، وهذا الزمان الذي اختاره الله وجعل للقرآن فيه خصوصية من بين سائر الأزمنة هو شهر رمضان.
نعم، يا أيها المؤمنون، هذه حقيقة شرعية لا بد أن تستقر في قلوبنا، وتَعِيها عقولنا، وترسخ في نفوسنا؛ لنجد آثارها من بَعدُ، وهي أنّ للقرآن العظيم خصوصية في شهر رمضان، وهذه الخصوصية هي اختيار رباني، ومشيئة إلهية، وقدَر الخالق -سبحانه-، وفعل أحكم الحاكمين.
خصوصيَّةُ القرآن في رمضان بدأت هناك، في غار حِراء، بدأت هناك في ساعة التقاءِ وحيِ السماء بأهل الأرض بعد طولِ انقطاع، بدأت في تلك اللحظة التاريخية التي لا مثيلَ لها في أحداث الدنيا كلِّها، تلك اللحظة التي أُعْلِنَتْ فيها نُبُوَّةُ محمَّد بن عبد الله، تلك اللحظة التي تشرَّفَتْ فيها الأرضُ بكلمات الله تُتلى على ظهرها لأوَّلِ مرَّةٍ منذ عهدٍ طويلٍ.
نعم، بدأت خصوصية القرآن في رمضان حينما حدث كل ذلك ووقع في زمان رمضان، حينما تُليت الكلمة الأولى من القرآن العظيم على مسامع النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة من ليالي شهر رمضان، تليت هناك في كهف مظلم في أعلى جبال مكة، فأنارت به الكهف والجبال والسهول ومشارق الأرض ومغاربها، فتجلى هذا النور الإلهي المبارك في ساعات مباركة اختارها الله لتكون من ساعات هذا الشهر المبارك شهر رمضان، ولم يختر ربنا الحكيم وقتاً من غير هذا الشهر ليلقي كلماته على أشرف خلقه، ليكون ذلك أعظم شاهد على خصوصية القرآن في هذا الشهر.
هذا المشهد المهيب الذي تلقت فيه الأرض أولى كلمات الله، وتباركت بها في ساعة مباركة من ساعات شهر رمضان، صوَّرَتْها لنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، فقد روى البخاري في صحيحة: عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ:"أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، قَالَ: "فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) [العلق:1-3]".
فهذا الحدث وقع في وقت من رمضان؛ ليشهد بذلك على خصوصية القرآن العظيم في شهر رمضان المبارك، خصوصية أرادها الله وشاءتها حكمته -سبحانه وتعالى-.
أيها المؤمنون بالله العظيم: هذه الخصوصية للقرآن العظيم في شهر رمضان كتبها ربنا -سبحانه- في القرآن العظيم، وجعلها وَحْياً يتلى إلى يوم القيامة؛ لتبقى خصوصية القرآن في رمضان ما أبقى الله الدهر والزمان.
نعم، هذه الخصوصية سطرها القرآن العظيم في ثلاث سور كريمة: سورة البقرة وسورة الدخان وسورة القدر.
فقال ربنا -سبحانه- في خصوصية القرآن العظيم في شهر رمضان في سورة البقرة: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185]، يقول ابن كثير: "يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه".
وقال محمد رشيد رضا في تفسير المنار: "وَأَمَّا مَعْنَى إِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ -مَعَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ بِالْيَقِينِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُتَفَرِّقًا فِي مُدَّةِ الْبِعْثَةِ كُلِّهَا- فَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ نُزُولِهِ كَانَ فِي رَمَضَان".
وقال ربنا -سبحانه- في خصوصية القرآن العظيم في شهر رمضان في سورة الدخان: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة) [الدخان:3]، قال السعدي: "هذا قسم بالقرآن على القرآن، فأقسم بالكتاب المبين لكل ما يُحتاج إلى بيانه أنه أنزله(فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)، أي: كثيرة الخير والبركة، وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام على أفضل الأنام".
وقال ابن عاشور: "فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي ابْتُدِئَ فِيهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ على مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- فِي الْغَارِ مِنْ جَبَلِ حِرَاءٍ فِي رَمَضَانَ".
وقال ربنا -سبحانه- في خصوصية القرآن العظيم في شهر رمضان في سورة القدر: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1]، فهنا سمى الليلة وحدد وجودها في شهر رمضان.
فهذه الآيات الثلاث، في السور الثلاث، تحدّد العلاقة الخاصة بين القرآن ورمضان، ويوضح بعضها بعضاً، كما يصدق بعضها بعضا، فقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن)، يشير إلى أن نزول القرآن كان في رمضان، ولكن لم يبين هنا هل أنزل في الليل منه أو النهار؟ فجاء قوله تعالى: (إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ)، فبين أنه أنزل في الليل، وفي ليلة مباركة، ثم جاء قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر)؛ ليحدد مسمى هذه الليلة الرمضانية، ومعالمها، فبين أن القرآن أنزل في ليلة القدر من رمضان.
أيها المؤمنون بالله العظيم: هذه الخصوصية للقرآن العظيم في شهر رمضان المبارك التي أرادها الله -سبحانه- وسجلها القرآن العظيم ظهرت واقعا عمليا في السنة النبوية، حيث أظهر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمته أن شهر رمضان فعلا هو شهر القرآن، وأن له خصوصية ليست لغيره من الشهور، وذلك من خلال المدارسة القرآنية المباركة والشريفة التي كانت يُعْقد مجلسها بين جبريل -عليه السلام- وسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في ليالي رمضان.
فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَد مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ".
ففي هذا الحديث -كما يقول ابن رجب- "دليلٌ على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان، وفيه أيضا أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً مما يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً؛ فإن الليل تنقطع فيه الشواغل، ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر".
وقال ابن باز: "يمكن أن يفهم من ذلك أن قراءة القرآن كاملة من الإمام على الجماعة في رمضان نوع من هذه المدارسة؛ لأن في هذا إفادة لهم عن جميع القرآن، ولهذا كان الإمام أحمد -رحمه الله- يحب ممن يؤمهم أن يختم بهم القرآن، وهذا من جنس عمل السلف في محبة سماع القرآن كله".
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يترجم خصوصية هذا القرآن العظيم في شهر رمضان الفضيل بهذه المدارسة والمذاكرة للقرآن العظيم في ليالي رمضان، وعلى مدار الشهر كاملا، وفي كل سنة تمر عليه. فهل لنا به قدوة -صلوات الله وسلامه عليه-؟.
أيها المؤمنون بالله العظيم: هذه الخصوصية للقرآن العظيم في شهر رمضان الفضيل أرادها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تكون منارة من منارات رمضان، تضيء لياليه في مشارق الأرض ومغاربها، وتنير قلوب الصائمين من عباد الله القانتين، وتملؤها خشوعا، وتزيدها إيمانا، وذلك حينما شرع -صلى الله عليه وسلم- لهذه الأمة قيام شهر رمضان، كما في الحديث الصحيح الذي يقول فيه -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
وفي القيامِ قراءةٌ للقرآن العظيم، بل طول القيام وطول القراءة فيه مقصد من مقاصد قيام رمضان. وبذلك يؤكد هذا الحديث خصوصية القرآن في رمضان بصورة عَمَلية من خلال إحياء ليالي رمضان بصلاة التراويح والتهجد، التي يتلو فيها القائم آيات من القرآن الكريم.
أيها المؤمنون بالله العظيم: لقد فقه السلف علاقة القرآن برمضان، ووَعُوا عن الله -تعالى- مراده في رمضان، وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حَالَه في رمضان، فطبقوا ذلك في واقعهم في رمضان، فجعلوا من أيام رمضان أيام تلاوة للقرآن، وجعلوا من ليالي رمضان ساعات قيام بالقرآن.
وتنقل لنا كتب السِير وكتب التراجم أحوال السلف العجيبة مع القرآن في رمضان، ومن تلك الشذرات الزكية التي تروى: أن الإمام أحمد بن حنبل كان يختم القرآن كل أسبوع، وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان، ويختم في كل سبع دائماً، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: "رمضان هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام".
وكان مالك بن أنس إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، ويُقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان لا يتشاغل إلا بالقرآن، ويعتزل التدريس والفتيا والجلوس للناس، ويقول: "هذا شهر القرآن".
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العباد، وترك بعض العبادات، وأقبل على قراءة القرآن.
وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت.
ونماذج السلف كثيرة، تلك التي أثبتوا فيها للأمة أن للقرآن خصوصية في شهر رمضان، وأنه بالفعل هو شهر القرآن، وأنه لا بد أن يفوز بالحظ الأوفر من عبادات المسلم في شهر رمضان.
أيها المؤمن، أيها الصائم: بعد هذه الأدلة الظاهرة والدلالات البيّنة التي تثبت لك خصوصية القرآن في شهر رمضان، لا بد لك من تطبيق ذلك في واقعك، لا بد لك من أن تجعل رمضانك رمضانَ تلاوة القرآن، لا بد أن تكون متميزا في رمضان بإقبالك على القرآن، لا بد أن تجعل نهارك مباركا بآيات القرآن، وأن يكون ليلك منيرا بكلمات القرآن.
فأقْبِلْ، يا أيها المؤمن الصائم، على القرآن، أقبل عليه قراءةً وتلاوةً وختماً، جاعلا من رمضان شهر الختمات العديدة للقرآن العظيم، ونَظِّم وقتك، ورتِّبْ لنفسك برنامجاً واضحاً، وخطةً عمليةً، لقراءة كتاب ربك -سبحانه-؛ لتجعل من شهر رمضان شاهداً لك على صلتك القوية بالقرآن العظيم، ومحطةً لك تُحصّل فيها الأجر، وتُكْثِر فيها من جمع الحسنات.
فأقبِلْ أيها الصائم على قراءة القرآن؛ استجابةً لله -تعالى-، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ورغبة بما عنده -سبحانه- من الفضل العظيم، فهو القائل -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:29-30].
وفي صحيح مسلم أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ -أي: السحَرة-".
وفي الحديث الصحيح في سنن الترمذي عن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "مَنْ قَرأَ حرفاً من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف".
أقبِلْ أيها المؤمن الصائم على قراءة القرآن في رمضان بقلب خاشع، وبعين دامعة، وبنفس مليئة بالخوف والرجاء، وبعقل ثاقب متدبر متأمل بما يتلوه من آيات الكتاب العزيز، وبما يردده من كلمات ربه العظيم الحكيم.
تلكم هي حال القوم العارفين بالله وهم جلوس بين يدي القرآن العظيم، وذلكم هو مراد الله من عباده حينما يتعاملون مع كتابه -سبحانه-، فهو القائل -عز وجل- في خشوع المؤمن لكلامه: ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر:23].
وقال تعالى:(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء:109]، وهو القائل -سبحانه- في تدبّر عباده لكلامه وتأمّلهم بمعانيه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29]، وهو القائل -سبحانه- في خضوع المؤمنين به واتباعهم لكلامه: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام:155].
نعم، هذه هي حقيقة العبودية لله تعالى بتلاوة قرآنه العظيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة المؤمنون الصائمون: إنّ هذا الربط المحكم بين القرآن ورمضان، وإنّ هذه الخصوصية الفريدة للقرآن العظيم في شهر رمضان الفضيل، فيها حِكَم ودلالات مهمة وجليلة، فهي تؤكد للأمة أنّ مكانتها التي ارتقت إليها بفضل القرآن لن تكون إلا بهذا القرآن، وأن عليها أن تحذر من هجر القرآن، وأن تحذر من تعطيل العمل بالقرآن ومن عدم الحكم به بين الأنام، وتطبيقه في كل شأن.
فرمضان يُجدّد للمؤمنين عهدهم بالقرآن، ويذكرهم بنعمة الله عليهم في إنزال القرآن عليهم، وبإحسانه عليهم أنْ خصهم بالقرآن من بين سائر الأنام، وأن عليهم أن يجعلوا منه منهج حياتهم، وقائدهم إلى طريق الهداية والنجاة، وسبيلهم الأوْحَد للارتقاء بهم في الدنيا والآخرة.
نعم، يا عباد الله، هذه هي مقاصد رمضان والقرآن، فربنا سبحانه هو القائل: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى)، وهو القائل سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]، وهو القائل -سبحانه-: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) [المائدة،49]، وهو القائل -سبحانه-: (وبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء:105].
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا...
* للتعليق على الخطبة في مصدرها يُنقر على الصورة
* للتعليق على الخطبة هنا ينُقر على المربع الخاص لكتابة التعليق ثم يخُتار من القائمة المنسدلة اسفل منه نوع المعرف او نوع مجهول ثم يخُتار نشر