في عام 297 هـ قامت الدولة العبيدية الباطنية والتي يسمونها (الفاطمية) في المغرب الأوسط من شمال أفريقيا، ثم زحفت شرقاً فأسس زعماؤها مدينة المهدية في تونس، ثم واصلوا زحفهم فأسسوا مدينة القاهرة في مصر وأصبحت مقراً لهم وعاصمة، يقول القاضي عياض واصفاً حال الناس زمن هذه الدولة: "كان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد في حالة شديدة من الاهتضام والتستر، كأنهم ذمة، تجري عليهم في كثرة الأيام محن شديدة، ونصبوا حسيناً الأعمى السبّاب لعنه الله - تعالى - في الأسواق للسبِّ بأسجاع لُقِّنها يوصل منها إلى سبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، واشتد الأمر على أهل السنة، فمن تكلَّم، أو تحرك قتل ومثل به، وذلك في أيام الثالث من بني عبيد وهو إسماعيل الملقب بالمنصور لعنه الله - تعالى -... "[1]
وفي سنة 331 خرج على هذه الدولة أبو يزيد مخلد بن كيداد، وكان على مذهب الخوارج الصُفَّرية، فقام الناس معه لكرههم الشديد لبني عبيد، فدخل القيروان، وتحصن إسماعيل بمدينة المهدية، وخرج مع أبي يزيد فقهاء القيروان وصلحاؤهم وقالوا: نكون مع أهل القبلة لقتال الكفار، وقالوا: إن ظفرنا لا ندخل في طاعة أبي يزيد، وممن خرج معه من العلماء:
1 - أبو العرب محمد بن أحمد التميمي، كان جده من أمراء أفريقية، قالوا عنه: كان رجلاً صالحاً، ثقة، عالماً بالسنن كثير الكتب، وأثناء حصار المهدية سمع عليه كتاب الإمامة محمد بن سحنون، وكان يقول: "سماع هذين الكتابين هنا علي أفضل من كل ما كتبت". [2]
2 - ربيع القطان، ينتسب لقريش، ومن الفقهاء المعدودين، والعلماء المجتهدين في العبادة، وكان قد جعل على نفسه أن لا يشبع من طعام ولا نوم حتى يقطع الله دولة بني عبيد، ولما خرج العلماء على دولتهم جَدَّ في ذلك، فقتل شهيداً - رحمه الله - في وادي المالح في حصار المهدية، وكانت رغبة بني عبيد أخذه حياً ليشفوا منه نفوسهم، فلما لقوه في القتال أقبل وهو يطعن فيهم ويضرب، وهم يتوقفون عنه رجاء أخذه فلما أثخنهم بالضرب حملوا عليه فقتلوه، وأخذوا رأسه ومضوا به إلى إمامهم. [3]
3 - أبو الفضل العباس بن عيسى الممسي، كان فقيهاً فاضلاً، ولما عزم العلماء على الخروج كان العباس مريضاً فقال للعلماء: إن عزمتم عزيمة رجل واحد، فلا أضن عليكم، لما وجب علي من جهادهم، فقال أبو إسحاق السبائي: جزاك الله يا أبا الفضل عن الإسلام وأهله خيراً، إنا والله نشمر ونجد في قتال اللعين المبدل للدين، فلعل الله أن يكفِّر عنا بجهادهم تفريطنا وتقصيرنا عن واجب جهادهم.
وعقد العلماء أمرهم على الخروج إلى المصلى بالسلاح، وشقوا القيروان ينادون بالجهاد، وأعلنوا بالتهليل والتكبير وتلاوة القرآن، واستنهضوا الناس للجهاد، وحضرت صلاة الجمعة فخطب خطيبهم أحمد بن أبي الوليد خطبة بليغة، وحرض الناس على الجهاد، وسبَّ بني عبيد ولعنهم وأغرى بهم، وأعلم الناس بالخروج من غدهم يوم السبت، فخرج الناس مع أبي يزيد لجهادهم، فرزقوا الظفر بهم، وحصروهم في مدينة المهدية، فلما رأى أبو يزيد ذلك، ولم يشك في غلبته، أظهر ما أكنَّه من الخارجية، فقال لأصحابه إذا لقيتم القوم فانكشفوا عن علماء القيروان، حتى يتمكن أعداؤهم منهم، فقتل منهم من أراد الله سعادته ورزقه الشهادة، ومنهم الممسي وكان نبيلاً في العلم... [4] قال أبو محمد بن أبي يزيد عند قتل الممسي: "وددت أن القيروان سبيت ولم يقتل أبو الفضل". [5]
إن المبدأ الذي سار عليه علماء القيروان صحيح في الجملة وهو التعاون مع أهل القبلة لقتال الكفار المعاندين، ولكن كان الأحرى بهم أخذ الحذر والحيطة من هذا الخارجي، وإن هذه الحادثة لتدلنا على مبلغ كره أهل البدع لأهل السنة، ومبلغ إنصاف واعتدال وحب مصلحة الإسلام عند أهل السنة.
ومن العلماء المشهورين الذين صرحوا وأعلنوا كراهتهم لبني عبيد أبو بكر محمد بن علي النابلسي، كبير أهل مدينة الرملة في بلاد الشام، وكان شديداً عليهم، ذاماً لهم، منفراً للعامة عنهم، ويفتي في المحافل باستحلال دم من أتى من المغرب (أي مع بني عبيد) وعندما وقع القتال بين القرامطة والعبيديين انهزم القرامطة بقيادة الأعصم الجنابي بعد حصاره للقاهرة وخرجت عساكر العبيديين إلى الشام لملاحقة فلول الأعصم. فخاف منهم أبو بكر النابلسي، ففرَّ إلى دمشق، ثم إن واليها أبو محمد الكتامي قبض عليه وحمله إلى مصر في قفص من خشب، ومعه ابنه وبقية الأسرى وكانوا نحو ثلاثمائة، فأمر [6] بضرب أعناقهم على النيل، إلا النابلسي فإنه أمر أن يُسلخ من جلده، فطرح على وجهه بالأرض، وشقَّ السلاخون عرقوبيه، ونفخ كما تنفخ الشاة، ثم سُلخ، وهو في كل هذا يقرأ القرآن بصوت قوي، ثم غشي عليه ومات - رحمه الله - تعالى - ولعن قاتليه، وقد قتل ابنه قبله، فدعا الله على فاعله أن يفجعه الله بابنه، وكان للمعز العبيدي ابن اسمه عبد الله أماته الله في حياة أبيه وأفجعه به. [7]
قال أبو ذر الحافظ: "سمعت الدارقطني يذكره ويبكي، ويقول: "كان يقول وهو يُسلخ: ((كان ذلك في الكتاب مسطوراً))". وقال أبو الفرج بن الجوزي: أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي، فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم، وجب أن يرمي في الروم سهماً وفيناً تسعة، قال: ما قلت هذا، بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم، وجب أن يرميكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور الألهية... "[8]
ومنهم: جبلة بن حمود بن عبد الرحمن الصدفي، قال عنه أبو العرب: كان صالحاً، ثقة زاهداً، شديداً في الإنكار على الروافض، ولما خرج أهل القيروان للقاء الشيعي (العبيدي) مداراة له، غمّه ذلك وقال: اللهم لا تسلم من خرج يسلم عليه، فقيل له: إنهم خرجوا مداراة، فقال: اسكت، أرأيت لو نزل الروم بنا فقالوا: إنما تنزلون على حكمنا أو نجاهدكم هل كان يجوز أن ننزل على حكمهم؟ وإن عشت سترى من أحكام هؤلاء ما هو شر من أحكام الشرك.
ولما دخل عبيد الله أفريقية (تونس) ونزل رقادة ترك جبلة سكنى الرباط، ونزل القيروان، فكلم في ذلك، فقال: كنا نحرس عدواً بيننا وبينه البحر والآن حل هذا العدو بساحتنا، وهو أشد علينا من ذلك، فكان إذا أصبح وصلى الصبح خرج إلى طرف القيروان من ناحية رقادة ومعه سيفه وترسه وقوسه، وجلس محاذياً لرقادة نهاره إلى غروب الشمس، ثم يرجع إلى داره، ويقول: أحرس عورات المسلمين منهم، وكان ينكر على من خرج من القيروان إلى سوسة، ويقول: جهاد هؤلاء أفضل من جهاد أهل الشرك.
قال الفقيه ابن سعدون: "لما دخل عبيد الله الشيعي القيروان وخطب أول جمعة، وجبلة حاضر، فلما سمع كفرهم قام قائماً، وكشف عن رأسه حتى رآه الناس وخرج يمشي إلى آخر الجامع ويقول: قطعوها قطعهم الله، فما حضرها أحد من أهل العلم بعد هذا". [9]
هذا في المغرب، وفي الفترة نفسها قويت المعتزلة والشيعة في المشرق. في نيسابور وخراسان، وآل الأمر إلى توظيف اللعن في الجُمع، وهاجت فتنة حتى سجن القشيري وإمام الحرمين (الجويني) وأبو سهل شيخ الشافعية ومحتشمهم والذي انتهت إليه زعامة الشافعية، وكان رئيساً وقوراً واختفى الجويني وفرَّ إلى الحجاز عن طريق كَرْمان، فتهيأ أبو سهل، وجمع أعواناً ومقاتلة، والتقى في البلد هو وأميرها، فانتصر أبو سهل، وجرح الأمير، ثم أن أبا سهل أخذ بعد ذلك وحبس أشهراً، ثم أطلق وعظم عند الملك ألب أرسلان ولكنه اغتيل في سنة 456 - رحمه الله -. [10]
ألم نقل في حلقة سابقة: كل أمة علماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم؟...
----------------------------------------
[1] - ترتيب المدارك 2/318.
[2] - المصدر السابق 2/634
[3] - المصدر السابق 2/330
[4] - المصدر السابق 2/319.
[5] - المصدر السابق 2/ 314.
[6] - أي المسمى العز الفاطمي حاكم مصر
[7] - ترتيب المدارك 2/301.
[8] - سير أعلام النبلاء 16/ 149
[9] - ترتيب المدارك 2/ 247.
[10] - سير أعلام النبلاء 18/ 143
لقراءة الموضوع من المصدر
0 التعليقات:
إرسال تعليق