إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد: قال الله -تعالى- في كتابه العزيز مخاطبا المؤمنين به: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ) [الصف:14]، وفي قراءة: (كونوا أنصاراً لله).
قال السعدي في تفسير هذه الآية: "أي: بالأقوال والأفعال، وذلك بالقيام بدين الله، والحرص على إقامته على الغير، وجهاد من عانده ونابذه بالأبدان والأموال، ومن نصر الباطل بما يزعمه من العلم ورد الحق، بدحض حجته، وإقامة الحجة عليه، والتحذير منه. ومِن نَصْر دين الله: تعلم كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
وقال ابن كثير: "يقول -تعالى- آمرا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم، بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم، وأن يستجيبوا لله ولرسوله".
وقال ابن عاشور: "أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ الدِّينِ". وقال الشوكاني: "أي: دوموا على ما أنتم عليه من نصرة الدين".
فنصرة الله، هي أمر من الله، هي عقيدة وإيمان، هي طاعة وقُرْبة للرحمن، هي برهان ودليل صدق الإيمان.
وما أحوجنا إلى فقه حقيقة النصرة لله! وما أعظم حاجتنا إلى ترجمة هذا الفقه على أرض الواقع! فوالله! ما من شيء يحتاجه اليوم دين الله أكبر من حاجته إلى أنصار صادقين وفقيهين وعمليين، يَصْدقون الله في نصرته -سبحانه-، وحمل أمانته، ومناصرة دينه وكلمته.
وأعظم من فَقه حقيقة النصرة لله -تعالى- وأصدق من ترجمها على أرض الواقع من هذه الأمة هم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي مقدمتهم السابق الأول أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، والذي سنقضي هذه الخطبة في استجلاء الفقه العملي عنده لمعنى نصرة الله -تعالى-؛ لعلنا نصحح بذلك الفهم السلبي الذي قد يوجد عند بعض المسلمين عن فقه النصرة؛ ولعلنا بذلك نندفع وننبعث من أجل نصرة ديننا اقتداء بالصديق -رضي الله عنه-.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ)، ومن نصرة الله -تعالى-: نصرة حقائق الوحي وأصول الإيمان والأخبار الغيبية دون تردد ولا تلعثم، هذا ما فقهه الصديق، وهذا ما كان منه، وهذا ما شهد به التاريخ له.
فالصدّيق أصلا لُقّب بالصديق لكثرة تصديقه للنبي -صلى الله عليه وسلم- في مواطن وأخبار تهتز أمامها الجبال الرواسي.
وفي هذا تروي أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، فتقول: لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتدّ ناسٌ كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعى رجال إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس! قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم! قال: لئن قال ذلك فقد صدق. قالوا: أوَتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟! قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة.
هذا هو الصديق، وهذا هو فقهه لنصرة الله، بأنْ ينصر ما جاء به الوحي، ليعلّم المؤمنين من بعده أن ينصروا ما جاء في القرآن وفي السنة من حقائق هذا الدين، وأن لا يرتابوا فيها ولا يتشككوا في معانيها، ولا يصدقوا ما يثار حولها من شبهات.
أيها الإخوة: إن بعض المسلمين اليوم إذا ما أثيرت في وجهه شبهات مغرضة واهية حول حقائق ناصعة جاء بها الوحي وجدته في حيرة وقلق! ولربما اهتزت قناعاته، وليس ذلك إلا لأنه لا يفقه معنى التسليم لله -تعالى- فيما أنزل، والتسليم لنبيه -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر، فالصديق صدّق بخبر الإسراء والمعراج، ودافع عنه، وما سمح لنفسه لثانية واحدة أنْ يفكّر في الأمر؛ لأنه يعتقد بربه -سبحانه- عقيدة جازمة، فصدّق ورفض التشكيك، بل ونصر خبر السماء أمام من يطعن به، فكان بذلك حقا من أنصار الله، وكان بذلك فقيها بمعنى نصرة الله.
وخذ -أيها المؤمن- مثالا آخر يشهد للصديق بتصديقه لحقائق الغيب، وإنْ كانت مستحيلة في عقول الدّهريين والمادّيين وضعفاء الإيمان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: صَلّى رسول الله صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس، فقال: "بينا رجل يسوق بقرة إذْ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث". فقال الناس: سبحان الله! بقرة تتكلم؟ فقال: "إني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر". وما هما ثَمّ.
ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حَقّه: "إنّ الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق".
فكن يا أيها المؤمن من أنصار الله، ولن تكون من أنصار الله حتى تنصر حقائق هذا الدين وما جاء به الوحي الأمين، تنصرها باليقين بها، وبالدفاع عنها أمام كل مشكك، وبالرد على كل عابث بمحتواها، وبالاعتزاز والفخر بها، وبإظهارها دون خجل ولا توارٍ، فإن خبر رب السماء أصدق وأحق من أخبار أهل الأرض.
نعم، أيها المؤمنون، قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ)، وَفَقِه المؤمن الصدّيق أبو بكر -رضي الله عنه- هذه الآية حق فقهها، فقه أنّ من نصرة الله، أنْ تنصر دينه -سبحانه- بالمال، فالمال مال الله، والمال قوة شديدة الفعل والتأثير في نصرة الآراء والأفكار والعقائد، فقام الصديق -رضي الله عنه- بنصرة الدين بماله الخاص نصرة عملية، فأنفق لأجل دين الله ما شهد له به ربه -سبحانه-، وما أشهره وأعلنه نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، لما قال: "إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين".
هذه هي الترجمة العملية لفقه النصرة عند أبي بكر الصديق، تقديم ماله الخاص فداء النبي -صلى الله عليه وسلم- وإعانة له، وهو الحامل الأول لدين الله -تعالى-.
ولم يقف عند هذا الحد، بل نصر بماله من يريد أن ينصر دين الله، قدم ماله كله مددا لمن يجاهد لأجل إعلاء كلمة الله، لأن هذا من النصرة لله، ومن الاستجابة لأمره -سبحانه-، بأن يكون المؤمن من أنصار الله.
وهذا ما شهد به الواقع لأبي بكر -رضي الله عنه-: ففي غزوة تبوك حثّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحابة على الإنفاق بسبب بُعْدِها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كُلٌّ حسب مقدرته.
يقول عمر -رضي الله عنه- في ذلك: أمرنا رسول الله أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر إنْ سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله، "ما أبقيت لأهلك؟"، قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله: "ما أبقيت لأهلك؟"، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا.
والمقصود -يا أيها المؤمنون- أن نترجم نصرة الله في أرض الواقع كما ترجمها الصديق -رضي الله عنه-، فننصر من يسعى لنصرة كلمة الله ويجاهد في سبيلها بما نقدر عليه من مالنا الخاص، سواء كان قريباً منا أم بعيداً، وسواء كان فرداً أم جماعة، دولة أم مؤسسة، مدرسة أم معهداً؛ وأنْ نقدم ونبذل ذلك المال ونحن نفقه أنّ ذلك من النصرة لله -تعالى- التي أمرنا أن نكون من أهلها في كتابه العزيز.
فَقِه الصديق -رضي الله عنه- أن من نصرة الله أن يصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم، ولو مع ظهور الأعداء وقوة شوكتهم؛ لأن هذه هي البداية لظهور الحق، وهذا هو بداية الطريق للوصول إلى إعلاء كلمة الله في نهايته.
وترجم الصديق -رضي الله عنه- ذلك عمليا، فَصَدَع بالحق في مواطن ظهور الأعداء: فقد روت عائشة -رضي الله تعالى عنها-: لمّا اجتمع أصحاب النبي، وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألَحّ أبو بكر على رسول الله في الظهور، فقال: "يا أبا بكر، إنَّا قليل". فلم يزل أبو بكر يلحّ حتى ظهر رسول الله، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله جالس، فكان أوّل خطيب دعا إلى الله -تعالى- وإلى رسوله.
وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووُطئ أبو بكر وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحَمَلت بنو تميم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكّون في موته.
فجعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله؟ فإن لله عليَّ أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله، فلما هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجوا به، حتى أدخلوه على رسول الله؛ فأكب عليه رسول الله فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقّ له رسول الله رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله. اهـ.
فكل مؤمن وكل داعية يجهر بالحق ويدعو إلى الله، ويبين الحلال من الحرام ويدافع عن الإسلام وشريعته في مواطن تكون الغلبة فيها لأعداء الله والشوكة فيها ليست لأهل الحق بل لدعاة الباطل، فليعلم أن هذا من نصرة الله التي أمر الله بها عباده المؤمنين حينما قال لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ).
وليعلم أن موقفه هذا هو الثمن لبلوغ كلمة الله وظهورها وعُلُوّ الحقّ الذي يحمله، تماما كما كان من أمر الصديق -رضي الله عنه- ونصرته لله في هذا الموطن الذي عاد بعد سنين ليصبح موطن التوحيد الأوّل في العالم كلّه، بعد أنْ كان لا يجرؤ أحدٌ أن يرفع صوته فيه بكلمة التوحيد.
قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ)، ومن النصرة لله أن تنصر أولياء الله وحملة دين الله، وأن تقف معهم وإلى جانبهم، فهذا من فقه هذه الآية الكريمة، وهذا هو فقه الصديق -رضي الله عنه- لهذه لآية الكريمة، فقام مقامات عديدة نصر فيها حملة الدعوة في ظل ظروف عصيبة، وأحوال قاسية، نصرهم في زمن القلة والضعف، وتخلي القريب والبعيد عن حملة الدين والدعوة، وتَرْكِهم وحدهم في الميدان يجابهون قوة العدو وجبروت الطغيان.
نعم، هذا هو الصديق، وهذه هي حقيقة نصرة الله التي فهمها وتربى عليها، وشاهدها الناس واقعا عمليا منه -رضي الله عنه-.
وإليك هذا الموقف الشاهد على ذلك كله: عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص بأن يخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي، فقال: بينما النبي يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي، وقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله)؟.
وأما في حديث علي بن أبي طالب: "فقد قام خطيباً وقال: يا أيها الناس، من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، إنا جعلنا لرسول الله عريشاً فقلنا من يكون مع رسول الله لئلا يهوي عليه أحد من المشركين، فوالله مادنا منه أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله، لا يهوي إليه أحد إلاّ أهوى إليه، فهذا أشجع الناس.
وهذه النصرة لحمَلَة الدين في ظل زمن الاستضعاف واستقواء الأعداء من أعظم أنواع النصرة أجراً وأعزها وجوداً وأثمنها قدراً، لأنها تحتاج إلى قوة إيمان وجرأة، وتحتاج إلى فداء وتضحية، وتوكل وقوة يقين، واحتساب وإخلاص، وهذا ما كان من الصديق -رضي الله عنه- حينما وقف هذا الموقف الكبير، ليكون دعوة منه لكل مؤمن ومؤمنة أن يقف بجانب هذا الدين وبجانب دعاته عندما يخذلهم الناس، وتتكالب عليهم الأمم والدول والأعداء.
نعم أيها الإخوة، إن موقفا منك أيها المؤمن في زمن الاستضعاف والخذلان لهذه الدعوة يعدل مئات المواقف من غيرك حينما يقفونها بعد ظهور أمر الدعوة وعلو شأن الدين، فكن من أنصار هذه الدعوة في كل وقت، وبخاصة في وقت قلة النصير، وضعف المعين، فهذا من الفقه السديد لنصرة الله التي أمرنا بها في كتابه العزيز.
المؤمنون من أتباع الدعاة الكبار، وتلاميذ العلماء، والمقتنعون بأفكار قادة العمل الإسلامي، والسائرون على طريق الرسالة، يتعرضون لصنوف من الأذى الجسمي على يد الطغاة والظلمة وأعداء الحق، وتلقى الفئة المستضعفة من هؤلاء الأتباع النصيب الأكبر من هذا التنكيل؛ لأنه لا نصير لها ولا عشيرة تحميها، ولا نفوذَ اجتماعياً لديها يمنعها، وهذا ما حصل مع بعض أتباع دعوة نبينا -صلى الله عليه وسلم- من تلك الثلة التي آمنت به واقتنعت بما جاء به وأصبحت تابعة له -صلى الله عليه وسلم-، ولأنها كانت مستضعفة ومستعبدة وليس وراءها من يحميها من عشيرة وقبيلة، فلاقت أشدّ أنواع التعذيب على يد صناديد مكة؛ فأسروهم وعذبوهم ونكّلوا بهم.
وفي مقدمة هؤلاء بلال -رضي الله عنه-، الذي تعرض لتعذيب عظيم في صحراء مكة القاحلة المحرقة على يد سيده أمية بن خلف، ولم يكن له ظهر يسنده، ولا عشيرة تحميه، ولا سيوف تذود عنه، فصبر صبراً عظيما، وما كان الصدّيق، الذي يفقه حقا ما معنى نصرة الله ونصرة دينه، أن يقف صامتا أمام هذا الوضع الأليم الذي يمر به أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسار إلى أمية بن خلف وفاوضه بالمال الذي لا تسيل لعاب الطغاة إلا له، فاشتراه بأربعين أوقية ذهباً، فحرره من الأسر ومن الرّقّ ومن التعذيب، لينضم بعد ذلك إلى قافلة الدعوة، ينصرها ويدافع عنها ويبلغ رسالتها إلى الناس.
واستمر أبو بكر -رضي الله عنه- بنصرة الفئة المستضعفة والمأسورة والمعذبة من أتباع الدعوة، حتى حرر كثيرا، منهم: عامر بن فهيرة، وأم عبيس، و زنِّيرة، والنهدية، وبنتها؛ ليقدم الصديق -رضي الله عنه- النموذج الإسلامي الصحيح الذي يفهم ما معنى الانتماء لهذا الدين، وما معنى النصرة لهذه الدعوة، فلم يترك الأسرى والمستضعفين بين أيدي الظلمة والطغاة فريسة يستسهلون تعذيبهم، ويتمتعون بقتلهم، بل بادر بنصرتهم مستخدما الوسيلة التي يقدر عليها وتنفعهم.
وهكذا يجب على كل مؤمن صادق أن يبادر لنصرة الأسرى من عباد الله، والمستضعفين من المؤمنين بما يتاح له من وسائل مادية أو معنوية أو إعلامية، فهذا كله من فقه النصرة لله -تعالى-، ولدينه ولدعوته، وتطبيقاً لقوله -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ).
لقد فَقِه أبو بكر -رضي الله عنه- أنّ نصرة الله لا بد أن تكون بأقصى طاقة المؤمن، وبكل ما أوتي من إمكانات، فوظّف -رضي الله عنه- فلذات كبده لنصرة الدعوة وخدمة دين الله، فأشرك أولاده ذكوراً وإناثاً معه في مناصرة كلمة الله، ودعم مسيرة الدعوة؛ لتنتشر في الآفاق.
فها هو ابنه عبد الله يقوم بدور حسّاس ودقيق في أحداث الهجرة، فيكون عينا على قريش يتابع تحركاتهم، ويكشف مخططاتهم في تعطيل مسيرة الهجرة والمكر بأعظم مُهاجِرَيْن عرفهما التاريخ في سبيل الله: الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر -رضي الله عنه-، يحصل على تلك المعلومات لينقلها بعد ذلك في المساء بطريقة دقيقة إليهما ليتدبرا أمرهما. ويبيت حارسا عند الغار ثم يعود صباحا إلى مكة دون أن يشعر به أحد.
وتلكم أيضا عائشة ناصرة الدين بالعلم والتعلم التعليم، وأسماء التي ارتبط اسمها بأحداث الهجرة حيث عُرِفت فيها بذات النطاقين لقيامها بتزويد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصديق -رضي الله عنه- بالطعام حينما قطعت نطاقها لتربط به وعاء الطعام.
إن هذه النصرة العملية لدين الله من قبل أولاد الصديق جاءت ثمرة فقه سديد منه -رضي الله عنه- لمعنى نصرة الله، وتربية صادقة لأولاده على معانيها، فكان أن ترجمت في هذا الموقف وفي غيره، وهذا، يا أيها المؤمنون، ما تحتاجه الأسرة المسلمة اليوم، أنْ يتربى جميع أفراد العائلة على المشاركة الإيجابية في نصرة دين الله بكل بما يتاح أمامها من أساليب ووسائل، وبما يتوافر بين يديها من إمكانات مادية وعقلية وغيرها.
لقد فقه أبو بكر -رضي الله عنه- أنّ من نصرة الله -تعالى- الذّب عن كل مقدس في الإسلام، وعن كل شعيرة من شعائره، ورمز من رموزه، فيقف في وجه كل من يتطاول على أي من ذلك، ويضرب لنا في ذلك مثلا عمليا، وذلك حينما سمع ذلك اليهودي يقول في حق الله قولاً عظيماً، فيصف الله -حاشاه!- بأنه فقير يستقرض المال من عباده، فيغضب الصدّيق لأجل مقولته الكاذبة هذه، ويصفعه صفعة قوية.
فذهب ذلك اليهودي واسمه فنحاص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا محمد، انظر ماصنع بي صاحبك! فقال رسول الله لأبي بكر: "ما حملك على ماصنعت؟"، فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيماً، إنه يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبْتُ لله مما قال، وضربت وجهه.
فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله -تعالى- فيما قال فنحاص رداً عليه، وتصديقاً لأبي بكر: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [آل عمران:181]".
فكن -يا أيها المؤمن- ممن يغضب لأجل الله، وممن يتمعّر وجهه، ويكون له موقف مشرف إذا ما تم التطاول على ذات الله أو على شعائر الله، من قبل العلمانيين أو المستهترين أو الملحدين.
سيبقى التاريخ الإسلامي شاهداً بقوة على موقف أبي بكر من المرتدين ومقاتلته لهم، ذلك الموقف الذي نصر به دعوة الله أعظم النصرة وأهمها وأخطرها، فدفع الله به شرّ هؤلاء المرتدين، وأطفأ نارهم التي كادت أن تحرق بلاد الجزيرة، وقال فيهم قولته الشهيرة: والله! لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة! والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه. فأشهر أبو بكر سيفه في وجوههم وناجزهم به حتى قمعهم.
فهذا هو أبو بكر الذي فقه نصرة الله فقها عمليا وشموليا، يستخدم الأدوات المناسبة في المواقف المناسبة، فيستخدم القوة الشديدة في مدافعة رايات الباطل ليقهرها، ويرد كيدها عن مجتمع المسلمين، وهذه سبيل على المؤمنين أن يسلكوها حينما يكون ذلك مناسبا ومشروعاً.
أقول قولـي هـذا وأستـــغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: لقد بلغ فقه الصديق لنصرة الله ودعوته مبلغا عظيما، فها هو -رضي الله عنه- يحزن لما يصيب الدعاة والقائمين على أمر الله من الهمّ والحزن، والجوع والعطش، والشدّة والضيق، يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أنّ رقابنا ستقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه.
فقال أبو بكر الصديق، يا رسول الله! إن الله قد عوّدك في الدعاء خيراً، فادع الله، قال: "أتحب ذلك؟"، قال: نعم، فرفع يديه فلم يردهما حتى أظلت السماء ثم سكبت، فملؤوا ما معهم.
فيا عباد الله: هذه هي النفوس التي نريدها اليوم، نريد نفوساً مؤمنة تشعر بأحوال المسلمين وتئن لجراحاتهم وتناصرهم ولو بالدعاء لهم، لا تقف متفرجة ولا عاجزة عن فعل شيء أمام محنهم صغرت أو كبرت.
إنّ مناصرة دين الله تكون بكل سبيل ممكنة، وبكل قدرة متاحة، وهذا هو فِقْه أبي بكر -رضي الله عنه- وتطبيقه العملي لنصرة الله التي أمرنا الله بها في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ).
فيا أيها المؤمن بالله، سِرْ على درب الصديق -رضي الله عنه- واجعله قدوتك في نصرة الله، والاستجابة لأمره، وتحقيق مراده -سبحانه-، حينما خاطبنا جميعاً، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ).
للتحميل الخطبة word
للتعليق على الخطبة في موقع ملتقى الخطباء
0 التعليقات:
إرسال تعليق