لا نبعد عن الصواب إذا قلنا: إن افتقاد الرجال القادة هو مما يعاني منه المسلمون، وخاصة في العقود الأخيرة، بل ويشكل أزمة إدارية - فكرية لديهم (وهي ظاهرة عند غير المسلمين أيضاً) قادة يجمعون بين العلم والعمل، ويرشدون إلى الطريق الصحيح وعندهم القدرة على فرز الأولويات والتعامل الذكي مع الواقع، كما عندهم القدرة على التغيير إلى ما فيه خير الأمة وحاجاتـها وآمالها.
وعندما نتكلم عن الحاجة إلى مثل هذه القيادة فلا نعني تأييد نظرية من يقولون بتأثير الفرد الأوحد أو انتظار البطل الذي يقود الجموع للهدف المنشود، ما نقصده هو إيجاد الشخصية القيادية المؤهلة لحمل الأعباء والتكاليف والمهمات الصعبة والمؤهلة إيمانياً وعقلياً وإدارياً، كما لا نؤيد من يقول: إن الظروف غير مهيأة اليوم، وأن طبيعة المرحلة لا تنجب مثل هذه الشخصية، لا نقول مثل هذا الكلام المحبط، فالتربية والإعداد والممارسة العملية، وممارسة الشورى على حقيقتها يمكن أن يأتي بـهذه الشخصية.
وإذا كانت التربية بالقدوة من أساليب الإعداد الناجحة، فإن أعظم القادة الذين يتأسى بـهم هم رسل الله، أكمل الخلق إيماناً وعلماً وعملاً، وهم هداة الناس إلى كل خير، وقادة الأمم إلى ما فيه صلاحهم، ولقد أكثر القرآن من ذكر صفات هؤلاء الرسل، وذكر أخلاقهم وسجاياهم وأعمالهم وصبرهم، وأكد القرآن على أن جاذبية هؤلاء الرسل لا تنبعث من مغربات مادية، ولا جاه عريض أو لقب كبير، وليس عندهم نفع يملكونه فيوزعونه، وليست لهم خزائن الأرض، ولا في أيديهم الأرزاق، عرض القرآن صفاتـهم وجردهم من كل تلك المغريات، وواجه الأمم في ذلك، قال - تعالى - على لسان نوح - عليه السلام -: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك).
(وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحوراً، انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً، تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً).
أبعد الله الرسل عن تلك المغريات وكذب ظن الظانين أن الرسل يجب أن يكونوا من عظماء المظاهر (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) [الزخرف: 31]. إن جاذبية القائد يجب أن تكون من أخلاقه وأعماله وارتباطه بالله - سبحانه وتعالى-، لا يريد جزاء ولا شكوراً، لا يجمع الأتباع بالمغريات المادية، أو بالمناصب يوزعها عليهم (وربما يستحدث مناصب وهمية ليرضيهم) ولا تكون بالمداهنة ومحاولة استمالة الجموع وستر أخطائها وإخفاء أغلاطها، وتجاهل مواضع ضعفها، فهذه قيادة مزيفة لا تستطيع أن تخفي عوارها طويلاً، وسرعان ما تنفض الجموع من حولها.
ومن الصفات التي ذكرها القرآن في الرسل الكرام تلك الثقة المطلقة بالمبادئ التي يدعون لها، ولا يساورهم شك في الأهداف التي يسعون لها، قلوبـهم مطمئنة مهما اعترض سبيلهم من عوائق يجابـهون المخالفين ولو كانوا كثرة كاثرة، أما الذين يروعهم الخطر اليسير، وتنخلع قلوبـهم لأي طارئ، وتشغلهم المراتب، وتلهيهم المعاشـات فهؤلاء لا يصلحون للقيادة ولا تصلح لهم. كان القرآن يطمئن الرسـل والذين معهم أنـهم منصورون (وكان حقا علينا نصر المؤمنين). (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين) [النساء: 82].
إن من الآفات المهلكة أن تضعف الثقة بنصر الله وتأييده وأن يشيع القائد في صفوف الجماعة روح اليأس والفشل كما تحدث القرآن عن ذلك الهم الذي يحمله الرسول بين جنباته، وذاك الحرص الشديد على إيمان قومه، وهذا القلق الذي يقيمه ويقعده خوفاً عليهم ألا يؤمنوا (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) [الكهف: 6].
وقد من الله على الناس أن بعث فيهم رسولاً منهم يعرفونه ويعرفهم، ويتكلم بلسانـهم، ومهمته أن يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) [التوبة: 128].
إنه - صلى الله عليه وسلم - رؤوف بالمؤمنين، يصل قلبه بقلوبـهم، وروحه بأرواحهم، يرمون هدفاً واحداً، يتقاسمون السراء والضراء في حنان وعطف، ومشاركة وجدانية تعرف مواقع الضعف والقوة، وتعامل كلاً بما يناسبه، فهي رحيمة عادلة، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتفقد أصحابه ويتتبع أحوالهم، ويسعى في حاجاتـهم، وكانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءت في سبيل قضاء حاجة لها، وهذا يدل على سهولة الخلق ويسره، إنـها مشاركة تألم لخطأ الخاطئين، وتبتهج لصواب الموفقين، تقسو وترق لتصلح لا غير.
ومن الصفات التي رسمها القرآن لقادة الأمم ومن بـها على الأنبياء حيث نفحهم بأعظم الصفات الحكمة (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله) [لقمان: 12] (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة) [النساء: 54]، (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) [البقرة: 269] ((وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة) [المائدة: 110]، والحكمة في أصل معناها ترجع إلى المنع طلباً للإصلاح، فالحكيم هو الذي يصرف نفسه عن هواها والحكمة وضع الشيء في موضعه، وهي على هذا إنما تشمل العلم والعمل، وحين ذكر الله - سبحانه وتعالى- في سورة الإسراء أصولاً من الأخلاق والأوامر والنواهي عقب على ذلك بقوله: (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة) [الإسراء: 39].
إنها معرفة الحق وعمل الخير، ولون من الفطنة تنتهي إلى الرأي السديد، وهو ما يغلب به القائد هواه، ويتخلص من المباغتات الطارئة، والتدبير للمواقف الشديدة، إنـها تكون حيث لا يغلبها الحقد، ولا يستفز القائد غيره من رؤوس تظهر حوله، ليست الحكمة الكلام النظري المنمق، ولا تلتمس الحكمة عند أصحاب التأمل المجرد، وربما يؤدي به الغوص إلى الشك والحذر المضيع للفرص، أو يؤدي إلى افتراضات واحتمالات غير واقعية، كما لا يعني أن أصحاب المقدرة العلمية النظرية، أو المتعمقين في أصناف العلوم هم الأجدر بامتلاك الحكمة، إذا لم يمارسوها عملياً، وكما قيل: عندما تكبر الحكمة تتضاءل المعلومات، ولا تلتمس عند أصحاب التفاصح في البيان، ولكنها عند الذين يمارسون عملية تزكية النفس وتزكية الآخرين، ويقدرون على تناول الأمور بلطف وحسن تدبير، ويدخلون البيوت من أبوابـها.
أقام القرآن الكريم رسل الله في مقام القدوة (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) وعندما قرر القرآن بشرية هؤلاء الرسل، إنما أراد أن يتم الاقتداء بـهم وأن يبطل حجة المعاندين المراوغين عن الحق، وبسبب هذه الأسوة وهذا النموذج فقد كملت شمائل هؤلاء الرسل، وعظمت همتهم ونجدتـهم وألقي في نفوسهم الاستعداد لاحتمال الآلام، والصبر على العظائم فلا يبطرهم نصر، ولا يطمعون في حياة خالية من الشدائد، يطلبون الحق ولو ضل جميع الناس، كما جاء في الحديث عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - عندما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسلم يلقى الشر قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - "أن تبقى على الحق ولو أن تعض على أصل شجرة".
إن الشجاعة من أعظم ميزات القادة، سواء الشجاعة المادية أو المعنوية وقد جاء في الحديث: "شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع" ومن أعظم أنواع الشجاعة أن تجابه الجموع إذا كنت تعتقد أنك على الحق، ولقد جابه موسى - عليه السلام - فرعون وقومه ودولته وهو وحيد ليس معه إلا أخاه هارون - عليه السلام -، وجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قومه وهو وحيد فريد في قلة قليلة، إن قراراً شجاعاً في اللحظات الحرجة قد ينقذ الموقف.
لقراءة المقال من المصدر
0 التعليقات:
إرسال تعليق