12‏/03‏/2013
11:37 م

الآمرون بالمعرف والناهون عن المنكر/ د. محمد عقلة الابراهيم



قال الإمام الشعبي: "كل أمة علماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم"، ويعلق ابن تيمية على كلام الشعبي: "وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم" [1]، والذي يرى ما يفعله رهابين النصارى وأحبار يهود من إضلال أتباعهم، وتحريف الكلم عن مواضعه وأكل أموال الناس بالباطل، والذي يرى هذا التشويش الذي تغلغل في عقول الأوربيين عن الإسلام، وهذا التزوير للتاريخ يجد مصداق ما ذكره هذا التابعي الجليل.

ومَنْ ينظر في تراجم علماء الإسلام، وخاصة في القرون الأولى فسيجد نمطاً عجيباً من الرجال الأفذاذ، علماً وعملاً وجهاداً وأخلاقاً، سيجد المئات بل الآلاف من العلماء الربانيين الذين لا يكتمون الله حديثاً، والذين سعدت بهم هذه الملة لقيامهم بحق العلم، وأنهم ليسوا كأهل الكتاب الذين وصفهم الله - تعالى - بقوله: ((وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون)) [آل عمران/ 187]. فكم من جاهل قد علموه، وكم من مائل قد قوّموه، وكم من ظالم وقفوا في وجهه، وهم الذين حفظوا الشريعة وحافظوا عليها، وهم الذين يستشعرون المسؤولية عند أي طارئ يصيب الأمة، وهذا لم يوجد في أمة قط. قال الذهبي يصف البويطي صاحب الإمام الشافعي: "وكان إماماً في العلم، قدوة في العمل، زاهداً ربانياً، وقد امتحن في قضية (خلق القرآن) فلم يجب، وقال: لئن أدخلت عليه (الواثق) لأصدقنه، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم" [2]. ويذكر عن الإمام سحنون عبد السلام بن حبيب التنوخي أنه كان يقول: ما أقبح بالعالم أن يأتي الأمراء والله ما دخلت على السلطان إلا وإذا خرجت حاسبت نفسي فوجدت عليها الدَّرْك. [3]

وهم الذين يتصدون لرعاية الناس، وخاصة عند غياب السلطان، قال أبو المظفر في (مرآة الزمان): لما دخل المأمون بغداد، نادى بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأن الشيوخ بقوا يضربون ويحبسون [4] فنهاهم المأمون وقال: قد اجتمع الناس على إمام [5] فمهمة العلماء قول الحق والأمر بالمعروف ولو غضب الناس، كما يذكر عن الإمام الثوري: "إذا رأيت القارئ محبباً إلى جيرانه فاعلم أنه مداهن" [6]، فهذا إذا كان محبباً إلى جيرانه، فكيف إذا كان محبباً إلى الحكام المفسدين الظالمين.

ومن العلماء البارزين الذين هم ورثة الأنبياء الإمام الكبير المجاهد أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزازي قال أحمد العجلي: كان صاحب سُنّة، صالحاً، وهو الذي أدبّ أهل الثَّغر [7]، وعلمهم السنة، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه، قال الشافعي: لم يصنف أحد في السير مثل كتاب أبي إسحاق، قال الفضيل بن عياض: ربما اشتقت إلى المصِّيصة [8] ما بي فضل الرِّباط إلا أن أرى أبا إسحاق - رحمه الله -. [9]

ومنهم الإمام أبو عثمان سعيد بن الحداد، شيخ المالكية، أحد المجتهدين الذي له مقامات كريمة، ومواقف محمودة في الدفع عن الإسلام، والذبّ عن السنة، ناظر العبيديين في دولتهم، حتى قال له ولده: يا أبة، اتق الله في نفسك ولا تبالغ، فقال: حسبي مَنْ له غضبت.

وله مع شيخ المعتزلة الفراء مناظرات بالقيروان رجع بها عدد من المبتدعة، أتاه رسول عبيد الله - يعني المهدي[10] - فجاءه وعنده أبو جعفر البغدادي، قال ابن الحداد: فتكلمت بما حضرني، فقال: اجلس، فإذا بكتاب لطيف وفيه حديث غدير خم، قلت: صحيح، وقد رويناه، فقال عبيد الله: فما للناس لا يكونون عبيدنا؟ [11]، قلت: أعز الله السيد، لم يرد ولاية الرق، بل ولاية الدين، قال: هل من شاهد؟ قلت: قال الله - تعالى -: ((ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله)) [آل عمران/ 79] فما لم يكن لنبي الله لم يكن لغيره.

وفي مناظرة أخرى مع أبي عبد الله الشيعي [12] قال له الشيعي: قوله - تعالى -: ((لا تحزن إن الله معنا))، إنما نهاه النبي عن حزنه لأنه كان مسخوطاً، قلت: لم يكن قوله إلا تبشيراً بأنه آمنٌ على رسول الله وعلى نفسه، فقال: أين نظير ما قلت؟ قوله لموسى وهارون: ((لا تخافا فإنني معكما أسمع وأرى)) [طه/ 46] فلم يكن خوفهما من فرعون خوفاً بسخط الله، قال الشيعي: يا أهل البلدة، إنكم تبغضون علياً، قلت: على مبغضه لعنة الله، فقال: صلى الله عليه وسلم، قلت: نعم، ورفعت صوتي، لأن الصلاة في خطاب العرب: الرحمة والدعاء، قال: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنت مني بمنزلة هارون من موسى" قلت: نعم، إلا أنه قال: "إلا أنه لا نبي بعدي" وهارون كان حجة في حياة موسى وعلي لم يكن حجة في حياة النبي، وهارون كان شريكاً، أفكان علي شريكاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في النبوة؟ وإنما أراد التقريب والوزارة والولاية.... [13]

قال ابن الحداد: ودخلت يوماً على أبي العباس [14] فأجلسني معه في مكانه وهو يقول لرجل: أليس المتعلم محتاجاً إلى المعلم أبداً؟ فعرفت أنه يريد الطعن على الصدّيق في سؤاله عن فرض الجَدَّة، فبدرت وقلت: المتعلم قد يكون أعلم من المُعلِّم وأفقه وأفضل لقوله - عليه السلام -: "رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" ثم معلِّم الصغار القرآن يكبر أحدهم ثم يصير أعلم من المعلِّم... قال: يا شيخ أنت تلوذ، قلت: لست ألوذ، أنا المجيب لك، وأنت الذي تلوذ بمسألة أخرى وصحت: ألا أحد يكتب ما أقول وتقول. قال: فوقى الله شرَّه... "[15]

ومنهم القاضي شرف الدين محمد بن عبد الله، جاء في طبقات الشافعية الكبرى أن السلطان الملك الكامل بن أيوب كان مع تصميمه [16] بالنسبة إلى أبناء جنسه تحضر إليه ليلاً مغنية وتغنيه بالجنك على الدف، وأولع الكامل بها جداً، ثم اتفقت قضية شهد فيها الكامل عند ابن عين الدولة [17]، وهو في دست مملكته [18]، فقال ابن عين الدولة: السلطان يأمر ولا يشهد فأعاد عليه السلطان الشهادة، فأعاد القاضي القول فلما زاد الأمر وفهم السلطان أنه لا يقبل شهادته، قال: أنا أشهد، تقبلني أم لا؟ فقال القاضي: لا، ما أقبلك وكيف أقبلك، وعجيبة [19] - تطلع إليك بجنكها كل ليلة، فقال له السلطان: يا كنواخ (كلمة شتم بالفارسية) فقال القاضي: ما في الشرع يا كنواخ، اشهدوا على أني قد عزلت نفسي، ونهض...

ومنهم: إمام نيسابور وابن إمامها، وأمير المُطَّوعة [20] بخراسان يحيى بن محمد بن يحيى الذُّهلي، وكان قد تسلط على نيسابور أحمد بن عبد الله الخجستاني المعروف بالظلم وسفك الدماء، وقد أساء نائبه على نيسابور في سيرته مع الناس، وقوّى أهل الفساد والنهب والسلب، فاجتمع الناس إلى يحيى بن محمد، فثار على نائب الخجستاني، واستولى على البلد، ولكن الخجستاني استطاع التغلب على هذه الحركة، وهرب يحيى بن محمد، وتنكر ثم قبض عليه وقتل - رحمه الله -.

تأثر لمقتل يحيى بن محمد الرجل الصالح العابد أحمد بن المبارك المُستملي النيسابوري. وقال للخجستاني عندما قابله: يا ظالم قتلت الإمام ابن الإمام، العالم بن العالم، وكان يصلي من الليل ويدعو عليه.

وكان هذا المتسلط قد سعى للوقيعة بين الفقهاء فأحضر جماعة منهم وأحسن إليهم وقربهم وأكرمهم حتى يكونوا على خلاف يحيى بن محمد [21] وهذا أمر ما يزال الظلمة الغشمة يفعلونه، فنجد الحكومات المعاصرة تقرب بعض المتصوفة، أو بعض المتفقهة لتضرب بهم أهل الحق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولكن يأبى الله إلا أن يكشف هؤلاء، وتأبى سنة الله إلا أن تكون العاقبة للمتقين...

___________________
[1] - ابن تيمية: الإيمان/ 270
[2] - سير أعلام النبلاء 12/59
[3] - المصدر السابق 12/63
[4] - أي كانوا قادة الناس، في حال غياب السلطان، فكان يحتسبون ويقضون.
[5] - سير أعلام النبلاء 10/150
[6] - قال الشيخ جمال الدين القاسمي: مراده بالقارىء: الفقيه، اصطلاح سلفي معروف، ومنه: ليؤمكم أقرؤكم. الفضل المبين/ 365.
[7] - المدن التي يرابط المسلمون بها، وهي على حدود البلاد المحاربة للمسلمين، والمقصود هنا، حدود الدولة الرومانية شمالي بلاد الشام.
[8] - من ثغور الشام، بالقرب من أنطاكية، بينها وبين البحر اثنا عشر ميلاً.
[9] - سير أعلام النبلاء 8/473.
[10] - رأس الدولة العبيدية، التي تسمى الفاطمية، وهي باطنية اسماعيلية منافقة.
[11] - ظن الخبيث أن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فمن كنت مولاه فعلي مولاه" أنه ولاء الرق، أو تظاهر بأنه هكذا يفهم الحديث.
[12] - الداعي الذي مكن للعبيديين
[13] - سير أعلام النبلاة 14/210
[14] - أخو أبي عبد الله الشيعي.
[15] - المصدر السابق 14/212.
[16] - يريد حزمه.
[17] - القاضي شرف الدين بن عيد الدولة بن عبد الله، ولي القضاء سنة 617 بالقاهرة.
[18] - أي وهو الحاكم وليس خارج الحكم.
[19] - اسم المغنية.
[20] - الغزاة.
[21] - انظر: الكامل لابن الأثير 7/300 وسير أعلام النبلاء 14/285

لقراءة المقال من المصدر

0 التعليقات:

إرسال تعليق